دراسات إسلامية

 

 

 

 

الفضيلة بين النظرية القرآنية والنظرية الغربية

 

 

 

بقلم : الكاتب الإسلامي الأستاذ أحمد محمد جمال رحمه الله

 

     قرأت في إحدى المجلات هذه الحكمة الضالة لبرناردشو الكاتب الأيرلندى الراحل «أن الفضيلة ليست في الامتناع عن الرذائل فقط ، إنما هي في عدم اشتهائها».

     وقد استوقفتني هذه الحكمة الضالة لأعقِّب عليها فأقول عكس ما يقوله بنرناردشو : «إن الفضيلة ليست في عدم (إشتهاء) الرذائل ، إنما الفضيلة في الامتناع عنها» ؟ وتفصيل ذلك :

     * أن الإنسان الذي لا يتحرك شعوره للذةٍ أو ألم ويظل باردًا ، أو جامدًا أو خامدًا أمام اللذة والألم ليس هو بصاحب «فضيلة» .

     * ولكن صاحب «الفضيلة» هو الإنسان الذي يحس حرارة الشوق إلى اللذة الحرام ، ولكنه يملك نفسه عن النزوع إلى إطفائها وإرواء شوقه .. وهو الإنسان الذي يغمره الشعور بمرارة الألم الفادح ولكنه يتمالك نفسه عن الخضعان لثقله فلا يمزقه الألم ولا يحرقه .

     وكذلك الإنسان الذي يقدم على المخاطر والمهالك ، وهو لا يفكر في أولها ولا يقدر آخرها ، ولا يحس بمسؤولية ما هو مقدم عليه ، بالنظر إلى نفسه وأهله وأمته – ليس هذا الإنسان بصاحب «فضيلة» أي شجاعة ، وإنما هو متهور طائش مغرور. وكذلك الإنسان العامل الناصب – في معيشته أو وظيفته ، إذا كان قوي البدن قدير الساعد ليس هو بصاحب «فضيلة» كالعامل الناصب وهو ضعيف أو مريض فهذا «أفضل» من ذاك .

     وكذلك الغني الثري ذو المال الطائل الذي يسخو به عن فيض وسعة ، ليس صاحب «فضيلة» كذي المال القليل يسخو به – على حاجة قريبة أو بعيدة – فهذا «أفضل» من ذاك . وقس على ذلك جميع الأوصاف والخصال التي يتحلى بها الناس من تقوى وشجاعة وقوة وعلم وحلم وكرم وغيرهما.

     وقد جاءت الفلسفة الأخلاقية الإسلامية مؤيِّدة وجهة النظر هذه ، ومؤكِّدةً صحة هذا «المذهب الأخلاقي» مذهب الامتناع على مقدرة والإعطاء على حاجة ، والإقدام على حذر ، والتعفف على اشتهاء .. ففي النصوص القرآنية نجد :

     * ﴿وَيُؤْثِرُوْنَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾(1)

     ﴿إنَّ الَّذِيْنَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوْا ، فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُوْنَ ، وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّوْنَهُمْ فِي الْغَيِّ ثـُمَّ لاَ يُقْصِرُوْنَ﴾(2)

     أما الآية القرآنية الأولى ، فمن الصراحة والوضاحة بحيث لا تحتاج إلى تفسير . ولكننا نقف عند الآية الثانية قليلاً : والذين ﴿إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوْا﴾ .. لنجد أنها تعني أن فريق الإيمان الصحيح معرضون لمسِّ الشطان واستزلاله لهم ، والتقي منهم من تذكَّر عظمة ربه ، وتدبّر عقبى تعدّيه حدَوده وحقوقه بزنا أو سرقةٍ أو غيرهما ، فكفَّته رهبة الله وحكمة التدبّر والتعقّل عن إتيان الآثام .

     في الوقت الذي نجد فيه ، في الآية التالية : ﴿واخوانهم يمدُّونهم في الغىِّ ثم لا يقصرون﴾ نصًا على أن فريق العصيان والفسوق معرَّضون هم أيضًا لمسِّ الشيطان ولكن أولئك امتنعوا ، وهؤلاء انساقوا ، وازداد طمع الشيطان فيهم فمدُّوهم في غيِّهم بحيث لا يقصرون .

     وإذن فالفريقان يستويان في أن كلاَّ منهما عرضة لنزغ الشيطان إلا أن المتقين يتذكَّرون الله ، ويتمسكون بالفضيلة ، فيقهرون أنفسهم الأمَّارة بالسوء ، ويدحرون الشياطين الغواة . أما أولئك «أتباع الشياطين» فليس لهم من القوة والرجولة والكرامة ما يحمون به أنفسهم من غزوات الشياطين ليكونوا أصحاب «فضيلة» .

     ونلاحظ – في آياتٍ قرآنية أخرى – أن الله عز وجل يُثني على المؤمنين الذين يتعرَّضون للفتن والوساوس والمتاعب .. فيواجهونها بالصبر الجميل فيذكر عزّ وجلّ : ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس﴾ كما يذكر تبارك وتعالى : ﴿والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس﴾ أي الذين يصابرون الفقر والمرض ولقاء العدو .

     وفي الحديث النبوي ما يقوي «مذهب» الإمتناع على قدرة ، والإعطاء على حاجة ، والإقدام على حذر ، والتعفّف على اشتهاء . ونكتفي بالدليل على نوع واحد من أنواع هذا المذهب ، وهو هذا الحديث النبوي الكريم «ليس الشديدُ بالصرعة .. وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» .

     ويروي الحافظ ابن كثير في تفسيره عن مجاهد أنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أميرٌ للمؤمنين يسأله : رجل لا يشتهى المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجل يشتهى المعصية ولا يعمل بها ! فكتب إليه عمر : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها ﴿أُوْلـٰـئِكَ الَّذِيْنَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوْبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ﴾(3)

     وقد فضل فريق من العلماء والفقهاء صالحي المؤمنين على الملائكة فلماذا ! لأن طبيعة الملائكة خُلِقَت فاقدةً للشعور بالشهوات ، بعيدة عن التكاليف ومتاعب الحياة .. في حين خُلِقَتْ طبيعةُ البشر في وسط هذه الشهوات وهذه التكاليف وهذه المتاعب .. فإذا كان في البشر مؤمنون صالحون كانوا أفضل من الملائكة بلا جدال .

ألا له الخلق والأمر

     حديثنا هنا خاص بقضايا تتصل بقدرة الله عز وجل وانفراده بالأمر والحكم والتدبير : ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾(4) . ومهما أُوتِيَ العلماءُ النظريون والصناعيون من علم وصناعة .. فإن لهم حدودًا لا يستطيعون تجاوزها فيما وراءها من اختصاص الله الخالق القادر ، الخبير العليم :

·       ﴿وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيْلاً﴾(5)

     منذ بضعة أشهر نشرت الصحف نبأ عما أطلقوا عليه (طفل الأنابيب) وهو ما قام به بعض الأطباء من استخراج بويضة أحدى النساء وتلقيحها بنطفة زوجها داخل أنبوبة خلال أيام ثلاثة أو أربعة ثم نقلها إلى رحم المرأة نفسها حيث ظلت فيه فترة الحمل المعلومة ثم وضعت طفلاً صحيحًا سليمًا .

     وقد عدُّوا ذلك معجزة طبية عظيمة ، وسمُّوا المولود : (طفل الأنابيب) وهو خطأ كبير – لاشك في ذلك – لأنه يعد طفلاً عاديًا نشأ من اختلاط نطفة الرجل ببويضة زوجته خارج الرحم لمدة قصيرة محدودة ثم أدخلت البويضة الملقَّحَة إلى رحم الأم وهو المكان الطبيعي للتخليق والتكوين ونفخ الروح فيه .

     ومما ينبغي أن يلاحظ – فوق ذلك – أن طبيعة عملية استخراج البويضة صالحة للتلقيح من قناة فالوب بالزوجة استغرقت عدة سنوات واحتاجت إلى تكرار العمليات الجراحية للمرأة .. فقد تكرر خروجها دون أن تستجيب لاحتضان الحيوان المنوي في نطفة الزوج . وهو ما يحدث أيضًا مع وجودها داخل القناة وبعد تسرّبها للقاء الحيوان المنوي .. فقد يتم التلقيح وقد لا يتم لأن أمر الحمل منوط بمشيئة الله عز وجل : ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىٰ وَلاَ تَضَعُ إلاَّ بِعِلْمِه﴾(6)

     وكل ما فعله الأطباء هو التلقيح لأيام محدودة ومعدودة خارج الرحم بسبب العقم المؤقت عند الزوجة لانسداد قناة فالوب التي تتسرب البويضة منها عادةً للقاء الحيوان المنوي في نطفة الرجل .

     وأنا أعتقد أن هذه العملية سوف لا يستطيع الأطباء أن يستمروا في أجرائها لكل زوجة أصيبت بانسداد قناة فالوب .. لأن العملية شاقة ، وتحتاج إلى تكرار حتى يحصلوا على بويضة مستعدة للقاح، وهو أمر يكلفهم جهدًا متواصلاً ، كما يكلِّف المرأة عمليات متتابعة لاستخراج البويضة الصالحة أو القابلة للتلقيح .

     وليتهم اهتموا بمعالجة انسداد القناة بقطع الجزء المسدود ، ثم وصلها مرة أخرى .. كما يفعلون ذلك بأجزاء كثيرة من جسم الإنسان باطنه وظاهره ، ليتم اللقاء بين البويضة والنطفة طبيعيًا وسهلاً ، ويتم الحمل بإذن الخالق المصور سبحانه وتعالى ، وبعونه وتوفيقه . فهو وحده الذي ﴿يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثىٰ، وَمَا تَغِيْضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾(7)

     وإنما يكون المولود (طفل أنبوبة) لو أنه تخلق ونفخت فيه الروح وهو داخل الأنبوبة خلال شهور الحمل التسعة المعروفة .. ولكن هذا لم يحدث ، ولن يحدث لأنه من اختصاص الله عز وجل وقدره ومشيئته .

     ومثل هذه المبالغة في إشاعة الاكتشافات أو الإنجازات الطبية ما نشرته الصحف قبل ذلك عن نبأ من هولندا أن العلماء أعلنوا عن مولد عجل صناعي .. وأن النبأ كان مُثِيْرًا ، وأن العالم قد فوجئ به!.

     ثم نقرأ تفاصيل الخبر فنجدها تقول : «لقد تم حقن نطفة الثور بواسطة إبرة طبية في رحم البقرة، وتُعْتَبَر هذه التجربةُ أو الزراعةُ «الثورية» عاملاً هامًا في عمليات تربية الماشية ، وقد وُلِدَ العجلُ في حالة صحية رائعة !! ».

     هكذا أطلقوا عليه : (العجل الصناعي)!!.

     وفي رأينا إذا كان الأمر كما ذُكِرَ .. لا تُعتَبَرُ هذه الولادةُ صناعيةً ، لأنها أساسًا نتيجة لإلقاء نطفة الثور في رحم البقرة .. فهو أمر طبيعي ، وكل ما حدث أن الثور لم يكن هو نفسه الذي ألقاها في رحم البقرة وإنما أُخِذَت منه وحُقِنَتْ في رحمها .

     فالأساس إذن طبيعي : ذكر وأنثى ، ونطفة ورحم طبيعيان .. وإنما جاءت فكرة الحقن الصناعي لأن نطفة الإنسان والحيوان أيضًا تحتوي علىحيوانات منوية منتجة لأكثر من جنين واحد .. ربما مئات أو آلاف أو ملايين – كما يقولون – .

     وبطريقة الحقن استطاعوا أن يُفرِغوا النطفة الواحدة أو الدفعة الواحدة في أرحام متعددة لأبقار كثيرة وبهذا ضمنوا إنتاجًا أكثر في فترة موحدة .

     ولذلك ينبغي لكاتبي الأخبار وناشريها ألاّ يفهموا منها غير ما تعنيه أو أكثر مما تعنيه ، لئلا يكتبوها وينشروها على غير حقيقتها .

     وإنما يكون العجل صناعيًا إذا استطاعوا أن يولدوا بقرة من غير نطفة ثور .. وهيهات ثم هيهات، فليس من خالق غير الله سبحانه وتعالى عما يشركون .

     وقريب من هذا المجال .. مجال خيالات الإنسان وأوهامه وضلالاته تجاه الاكتشافات الحديثة طبية وصناعيةً ما كتبه بعض محرري إحدى المجلات عن اختراع الطائرة – والراديو – والتلفزيون – والصعود إلى القمر .. وجعل منها دليلاً على قدرة الإنسان التي أصبحت تحطم أو حطمت فعلاً ما كنا نسيمه «الاستحالة المطلقة». وأكد ذلك بقوله : (إن العقل البشري استطاع على مر السنين : أن يثبت أن ظاهرة الاستحالة المطلقة لا وجود لها في شبكة التفكير الإنساني).(8)

     وهي دعوى يلقيها الكاتب على عواهنها ، فالعقل البشري نفسه لا يدعيها ، والتقدم العلمي الحاضر لم يزعمها ، والعلماء والمفكرون العصريون لم يجرؤوا على التكلم بها ..

     * فمازالت (الاستحالة المطلقة) حقيقة قائمة وثابتة وواضحة الآن . وستظل كذلك أبدًا مهما تعاقبت الأزمان .. ومهما تقدم الفكر الانساني ، وتطور العلم البشري .

     فمازالت «الروح» من أمر ربي .. ﴿قُلِ الرُّوْحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّيْ ، وَمَا أُوْتِيْتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيْلاً﴾..

     ومازال حلم الأطباء في نجاح زراعة القلوب باطلاً وخيالاً ..

     وستظل علوم البشر وأفكارهم عاجزةً عن مقاومة العواصف والقواصف ، والأمطار والسيول، والجفاف العام والبراكين ، وهي تحدث في أرقى البلاد علميًا وتطورًا تكنولوجيًا .

     * وهذا الطبيب الأمريكي مؤلف كتاب (الإنسان ذلك المجهول) الدكتور أليكسِس كارل – يعترف بصراحة وذكاء : «بأن ثمة أمراضًا وعللاً يعجز الطب عن مداواتها .. وقد شفيت بمجرد الإيمان واللجوء إلى الرحمن».

     * والدكتور ريجى – الطبيب الأمريكي اللبناني الأصل – وهو من كبار الجراحين يلقى السلاح ويؤكد عدم نجاح (زراعة القلوب) .. ويطالب الأطباء بالاهتمام والبحث في إيجاد (وقاية) من الأمراض القلبية . والكف عن إجراء عمليات زراعة القلوب .

*  *  *

الهوامش :

(1)          سورة الحشر : 9.

(2)          سورة الأعراف : 201 و 202 .

(3)          مختصر مختصر : 9 .

(6)          صريون لمتفسير ابن كثير، ج:3، ص: 359 .

(7)          سورة الأعراف : 54 .

(8)          سورة الاسراء : 85 .

(9)          سورة فاطر : 11 .

(10)      سورة الرعد : 8 .

(11)      مجلة (الجناح الأخضر) في صفر عام 1395هـ .

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1426هـ = يناير 2006م ، العـدد : 12 ، السنـة : 29.